كلما توغلنا أكثر في رسائل ريلكه، ينكشف لنا مضمون أعمق بكثير من شاعر يكتب ليعلم الكتابة، في هذه النشرة، نواصل مبتغانا في تتبع كلمات ريلكه، حيث ابتدأ نصائحه ككاتب وفنان في الرسائل الثلاث الأولى، لكن ماتلى منها، نرى حواره مع كابوس يأخذ منحنى أعمق بكثير من مجرد تعلم الكتابة.
الرسالة الرابعة
الرغبة الجسدية
حين نتأمل فلسفة الرواقية، نجد أنها تنظر إلى الرغبات الجسدية بإعتبارها اضطرابًا يجب قمعه، وانها انفعالات صادرة من قوة غير عاقلة أو أن الإنسان يصير غير عاقل بتراخي النفس. في الفلسفة الرواقية، تعد الشهوة خطرًا على الفضيلة، لأنها تربك صفاء النفس.
لكن ريلكه يمضي في إتجاه مختلف تمامًا عن الرواقية. ففي هذه الرسالة، يقول بأن الرغبة الجسدية ليست اضطرابًا يجب كبته. بل يرى ريلكه بأن الرغبة الجسدية هي خبره عظيمة لا نهائية تعطى لنا. وانها تمام كل المعرفة وبريقها. ويقول بأنه تم اساءة استغلالها من الجميع. من وجهة نظره، الرغبة الجسدية رغبة طبيعية تمامًا وليست خطيئة، أو شيء دنيء ينبغي قمعه. يعتبرها جزء من الطبيعة الإنسانية التي شوهها خوف المجتمع وتقاليده، وجعل الناس يشعرون بالخزي منها. الرغبة الجسدية، عند ريلكه، هي مصدر الحياة والقوة، إن عاشها الإنسان بصدق دون خوف، يمكن أن تتحول إلى طاقة للإبداع والفن.
"لو تعامل بخشوع مع خصوبته التي هي الشيء نفسه سواء بدت عقلية أو جسدية، لأن الإبداع العقلي أيضًا ينشأ من الجسدي، وهو معه كيان واحد، ولكنه بمثابة تكرار أكثر هياجًا ودوامًا وخفوتًا لرغبة الجسد."
الأمومة
بعد حديثه عن الرغبة الجسدية، ينتقل إلى فكرة أخرى: الأمومة. ليس بيولوجيًا، بل فكرة أن يكون المرء مبدعًا يُنجب ويُنشئ. قال بأن هناك أمومة عامة، تطفو فوقنا، تُشركنا في شوقٍ إلى الخلق والإنجاب، ليس بمعناه الجسدي فقط، بل بمعناه الروحي والفني.
يتدرج ريلكه بحديثه عن الأمومة في العذراء والأم والعجوز. في العذراء عندما تتوق إلى الإنجاب، وهذا هو الجمال في أنها مستعدة للأمومة حتى لو لم تلد بعد. وفي الأم، عندما تصبح العذراء أمًا، تنتقل من الشوق للأمومة إلى فعل عملي وحب ملموس. وفي العجوز التي مازالت تحمل ذكريات الأمومة، حيث تصبح خبرة وحكمة في الشيخوخة.
والأمومة موجودة في الرجال. الرجل أيضًا يملك القدرة على الولادة، ليس ولادة الأجساد، بل ولادة الأفكار والأعمال الفنية. لهذا يشبه ريلكه الإبداع بفعل الولادة. الأمومة في نظره ليست حدثًا بيولوجيًا، بل هي حالة روحية تبحث عن شكل جديد في الوجود، يشارك وحدتنا مع العالم.
الوحدة
الأمومة، هذه الحالة الروحية لخلق وجود آخر، لا تظهر إلا في أعماق وحدتنا. عندها نواجه ذواتنا، ونتوق إلى ولادة شيء آخر. تمامًا مثل الأم التي تحمل في جسدها حياة جديدة، يحمل الفنان أفكاره وعالمه الداخلي الذي ينتظر أن يخرج الى الوجود.
الوحدة هي المساحة التي نحتاجها للكشف عن كينونتنا. ليست فراغًا مدمرًا للروح، بل فيها نعرف ذواتنا ونتقرب منها، وبوضوحٍ، نرى فيها الأفكار التي نحتاج أن نلدها للعالم.
الرسالة الخامسة والسادسة
لم يذكر شيئًا يستحق التأمل في رسالته الخامسة، لكنه عاد في الرسالة السادسة للحديث عن الوحدة في أجواء العيد.
"ولكن إن لاحظت أن الوحدة كبيرة، لتسعد بذلك، وإلا فما قيمة الوحدة التي لا تنطوي على عظمة؟"
الوحدة عظيمة، لكنها صعبة وثقيلة على النفس. هي حالة لا يتحملها الكثيرون، ينفرون منها فورًا للأمور السطحية مقابل أقل توافق ظاهري مع الآخر. يشبه ريلكه الوحدة بالربيع والغلام، تحتاج وقتًا لتنضج. هي ليست أزمة نفسية، بل ضرورة داخلية لنمو الإنسان. وكم هو صعب أن يواجه الإنسان ذاته في الوحدة. لهذا لا يتحملها الكثيرون، لأنها تتطلب أن يكون الإنسان قادرًا على البقاء مع نفسه لساعات طويلة دون ملل.
يربط ريلكه بين الوحدة ورؤية الأطفال للحياة. وهي تلك النظرة التي تعلو وجوهنا عندما كنا أطفال نحو الكبار، نراهم منشغلين في مهامٍ غامضة، بدهشة وفضول لمعرفة مايبقيهم منشغلين عنا. كنا وحيدين كما الآن، إلا ان تلك الوحدة من أعماق عالمنا الصغير، كانت بعيدة عن رتابة وجمود حياة الكبار.
"إذ لم توجد قواسم مشتركة بين الناس وبينك، فحاول أن تكون على مقربة من الأشياء التي لن تغادرها، مازالت الليالي موجودة والرياح التي تتخلل الأشجار وتعبر فوق بلدان كثيرة، مازال بين الأشياء ولدى الحيوانات، كثيرٌ من الأحداث التي مسموحٌ لك بمشاركتها، والأطفال مازالوا موجودين على الحال التي كنت أنت عليها حين كنت طفلًا، حزانى وسُعداء."
أرسل ريلكه هذه الرسالة في أجواء عيد الميلاد، ونصح كابوس بتذكر طفولته عندما يشعر بالوحدة، ويتذكر إيمانه الذي فقده، أو الذي لم يجده بعد. وإن لم يجده في طفولته ولم يستشعر ايمانه قبلًا، فما الذي يعطيه الحق في أن يفتقده ويبحث عنه؟
في نهاية هذه الرسالة، يذكر ريلكه كابوس مجددًا في التحلي بالصبر والإرادة.
"تحل بالصبر والإرادة وفكر في أن أقل ما يمكننا فعله ألا نصعب عليه أن يأتي، كما تفعل الأرض بالربيع عندما يرغب في المجيء."