رسائل ريلكه الأولى: قلق الكتابة
في الأسبوع الأول من قراءتنا، نقرأ كما قرأ كابوس هذه الرسائل الأولى، حيث لا تُعطى إجابات جاهزة، بل دعوة لتأمل الحياة والذات
يشرح ريلكه في رسائله للشاب فرانتس كزافير كابوس معنى أن تكون كاتبًا. فالكتابة في أعين الروائيين ليس لها معنى واحد. وتتعدد الآراء حول هذا المعنى عندما كان لكل منهم موقفه من العالم، ولكل منهم عاش في زمن ومكان مختلف. ومن ضمنهم، من نقرأ كلماته لهذا الشهر، راينر ماريا ريلكه. فهو يعتقد بأن الكتابة هي الضرورة القصوى في الكائن الحي، إذ أن الكتابة هي لمن لا يعيش إلا بها. وإن كان الإنسان يحيى بدونها، فلا يكون كاتبًا.
الرسالة الأولى: أكتب لأجل نفسك
كانت الرسالة الأولى من ريلكه هي ردٌ على رسالة طلب فيها كابوس أن ينتقد أشعاره. ولم تنشر رسائل كابوس؛ لأنه قرر أن يحافظ على خصوصيته وألا ينشر سوى إجابات ريلكه له. فيستفيد كل شاعر غيره بهذه النصائح. لذلك نحن نرى من خلال كلمات ريلكه قلق كابوس الدائم حول نفسه، وتساؤلاته إن كان لشعره الحق بأن يوجد.
وأرى بأن قلق كابوس كفنان هو قلق صادق وحقيقي، ولابد أن يكون هذا هو واقع الفنان كل يوم، حتى لو همس لنفسه عكس هذا، وحتى لو سلك طريقًا بعيدًا عن هذا الشك، لابد أن يحمل قليلًا منه في قلبه خلال تكوينه لإبداعه. فيسأل بقلق ينهك وجدانه إن كان نتاج عمله هو الفن كما يراه الناس.
يعتبر ريلكه بأن الأعمال الفنية هي وجود غامض نعجز عن نقدها، ويطلب من كابوس في البداية ان يستسلم ولا يبحث عن إجابة لسؤاله "هل أشعاري جيدة؟". يحذره ريلكه بأن هناك جحيما مخفيا خلف هذا السؤال. بدلًا من ذلك، عليه أن يسأل نفسه أولًا "هل سأموت إن لم أكتب ؟" فهذا سؤال أهم بكثير، يعي فيه نفسه عوضًا عن الإستنجاد بالآخرين لإعطائه آرائهم. فإذا كانت الإجابة نعم، فليكتب. وإذا كانت الإجابة لا، فلا بأس إن لم يكتب.
لكن، إن قررت بأن تكتب، اكتب من أجل نفسك وليس لأحد. فكابوس يبحث عن القبول خارج نفسه، وريلكه يرد عليه بأن عليه أن يجده في البداية داخل نفسه. وجود الفن لا يكون من الآخر، وقبول الآخر او رفضه لا يحدد بقاء الفن او عدمه.
يذكرني هذا القلق حول الكتابة بكافكا، عندما طلب من صديقه ماكس برود حرق كتاباته الغير منشوره كأمنية أخيرة. لكن ماكس برود لم يستمع إليه وخالف وصيته لينشر كل أعماله. وأرى بأن هناك نسخة من كابوس عميقا داخل كافكا، فكلاهما كتبا تحت شك وجودي حول قيمة أعمالهم وحول استحقاقهم بالكتابة. إلا أن كافكا في احتضاره لم يكن يعتبر بأن ماكتبه يستحق أن يقرأ. فأراد محو كتاباته عندما يموت. وعندما طلب كابوس رأي ريلكه حول أشعاره، لم يكن يبحث عن النقد، بل عن إذن بالوجود، كما فعل كافكا طوال حياته.
وفي ندوة أقامها ميلان كونديرا يعيد حكاية طلب كافكا الأخير لماكس برود، يسأل جمهوره، "تخيلوا أنكم ماكس برود. ماذا تفعلون ؟" يكشف كونديرا عن وجهة نظره ويقول "كنت سأحتفظ بروايات كافكا، ولا أنشر مذكراته." لم يفكر كونديرا كثيرًا في حال الأدب الذي خلفه كافكا من بعده، ولم يفكر بالأجيال القادمة من الروائيين الذين أسّسوا أعمالهم ورواياتهم من خيال كافكا وعقله، ومن كيان الأعمال التي كانت كامله والتي لم تكتمل. بل كان من رأيه أن تحتفظ بأعماله الفنية الكاملة فقط، وتحرق رسائله ومذكراته الشخصية التي لم تهدف أبدًا أن تخرج للعالم، حتى لو ضحى في سبيل فهم عالم كافكا الداخلي. من رأي كونديرا، ليس كل مايكتبه الكاتب يحق للأعين أن تراه بعذر فهم الفنان. هناك خط فاصل بين مايُكتب لأجل نفسك ومايُكتب لأجل أن يراه الناس.
فبينما كان ريلكه ينادي بالكتابة كضرورة روحية، كان كونديرا يحدد مايحق للعالم أن يقرأ من تلك الضرورة. وهي النصوص التي تكتمل كأعمال فنية، فقط.
الرسالة الثانية والثالثة: تأمل الفن
يضع ريلكه أمام كابوس أدوات تساعده على أن يكون كاتبًا، لا كيف أن يكتب. منها أنه نصحه باستخدام السخرية الآتيه من أعماق نفسه، والتي هي شكلٌ آخر من الألم، يستند إليها في كتابته عن الحقيقة.
"في لحظات الإبداع، حاول أن تستغلها، بوصفها وسيلة إضافية لفهم الحياة."
لكنه نصحه أيضًا بعدم استعمالها كثيرًا؛ لأن كابوس ككاتب لازال في البداية، ولجوءه الى السخرية مبكرًا قد يؤدي الى هربه من الحقيقة بدلًا من الوصول إليها. ثم أعطاه نصيحة أخرى تفيده أكثر، وهي: تأمل الإبداع في الآخرين لتتعلم شيئًا عنه.
أخبره ريلكه عن حبه الشديد للشاعر الدينماركي "ينس بيتر ياكوبسن" وأن يقرأ له لو لم يفعل. وفي الرسالة الثانية اقترح له عددا من كتبه، ليعود للحديث عنها أكثر في الرسالة الثالثة.
"عش بعض الوقت في تلك الكتب، تعلّم منها ماتراه جديرًا بالتعلم، ولكن قبل كل شيء أحبَّها. هذا الحب سيعود عليك آلاف المرات."
حرص ريلكه على أن تكون تجربة كابوس للقراءة وجودية وروحية، وليست مجرد هواية أو وسيلة للتسلية، فالكتابة نابعة من ضرورة، ولابد أن تكون القراءة لفن غيره على مستوى عميق، ليتعلم منهم جوهر الإبداع مثلما تعلمه ريلكه ياكوبسن وأيضًا من النحّات أوغست رودين. فالإبداع ليس مقتصرًا على الكتّاب والشعراء.
ثم، يأخذ ريلكه زاوية أخرى لشرح وجهة نظره عن النقد الجمالي الذي أفسد الفن، فيقول بنبرة قاسية:
"اقرأ أقل كم ممكن من أعمال النقد الجمالي، فهي إما آراء متحيزة متحجرة فقدت جدواها في تحجرها الميت، وإما تلاعب ماهر بالكلمات يجعل هذا الرأي يربح اليوم وغدًا يفوز عليه نقيضه. تتسم الأعمال الفنية بوحدة أبدية، وأقل ما يمكن أن يلامسها هو النقد."
هكذا تتجلى فلسفة ريلكه حول الكتابة، الكتابة لا تُقاس من خلال النقد الجمالي، بل تقاس بمدى الضرورة التي أوجدتها. فعندما يكون الفنان يعيش الفن في داخله، يكون الناقد خارجه يبصر هذه العلاقة بين الفنان وفنه ويُفسدها بالمعايير الصارمة الخالية من الحب. ومن ثم، صاغ تصوره لما يسمى بالحياة الفنية بهذه الجملة:
"أن تكون فنانًا يعني: ألا تحسب ولا تعد."
الحياة الفنية كما يراها ليست السعي للشهرة من خلال الفن، بل هي الحياة من خلال الفن ولأجل الفن. وأن يعيش الفنان كل لحظه في خشوع وفي اتصال دائم مع حاجته الداخلية للتعبير، ببطء ودون إستعجال. لأن الصبر هو الشرط الأساسي للنمو وفهم الحياة.
لتشاركني رأيك أيها القارئ!
هل ترى بأن وجهة نظر ميلان كونديرا عن خصوصية الكتابة ونشرها، هي مكملة لما قاله ريلكه؟ أم أن هناك تناقضًا؟ فريلكه قد دعا بضرورة أن تحتفظ الكتابات بعيدًا عن أعين الآخرين حتى لا تتأثر، وكونديرا يتحدث عن ملكية القراء للأعمال الفنية عندما تكتمل. مع أي منهما تتفق؟
ماهو مفهومك عن الكتابة أو للفن بشكل عام؟ هل هو ضرورة أم مجرد ترويح للنفس؟
هل تتفق مع ريلكه بأن النقد يُفسد الفن؟
ماهو اقتباسك المفضل؟
أكتب لي رأيك تحت هذه النشره
لقد أنهينا الثلاث رسائل الأولى في أسبوع، في الأسبوع القادم يوم الإثنين ان شاءالله سنناقش ثلاث رسائل أخرى. وللتذكير، الكتاب قصير بإمكانكم أن تقرؤوه خلال يومين لكن هذا ليس الهدف، الهدف هو القراءة البطيئة والمتمعنة لكل كلمة.
الاقتباس المفضل لدي خلال قراءتي لهذه الرسائل
" في مواجهة كل ما لم تجد له حلا في قلبك وأن تحاول أن تحب حتى الأسئلة نفسها وكأنها أدراج مغلقة أو كتب مكتوبة بلغة شديدة الغرابة. لا تبحث الآن عن الإجابات التي لا يمكن أن تُعطى لك، لأنك لن تستطيع أن تحياها. والأمر يتعلق بأن تعيش كل شيء. عش الأسئلة الآن، ربما يجعلك ذلك تعيش يوما ما، بالتدريج، في الإجابة، من دون أن تلاحظ . ربما تكون بداخلك القدرة على البناء والتشكيل بوصف ذلك طريقة فريدة ونقية للحياة؛ رَبِّ نفسك على ذلك، ولكن خذ ما يأتي بثقة كبيرة، وإذا جاء ذلك من محض إرادتك، ومن ضرورة ما في داخلك، فتقبله ولا تكره شيئًا"
جميعاً في دواخلنا لدنيا أسئلة كثيرة لا نعرف كيف نصفها أو معرفتها أو حتى لو عرفناها الأجابة عليها ولأن عمق الأنسان وصعوبة فهمه لنفسه يغرق في بعضهم في دواخلهم دون معرفة الوجهه أو انه وضع طريقا أو هدفا لهذا يُصاب البعض بالارتباك وربما يُصاب بالاضطرابات النفسية ربُما من الصدمة والضياع ولا يجرؤ الكثير طلباً للمساعدة
رغم أني انصح أن لاتنظر خلفك كثيراً وان ضعت اطلب المساعدة ولاتقلق كثيراً ولاتفكر كثيراً
"الكتابة لا تُقاس من خلال النقد الجمالي، بل تقاس بمدى الضرورة التي أوجدتها "اقتباس من مقالك يجاوبك عن سؤالك.